فصل: سورة الأحزاب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة الأحزاب

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم وندائه بوصفه مُؤذِنٌ بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة له‏.‏

فالنداء الأول‏:‏ لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه‏.‏

والنداء الثاني‏:‏ لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه‏.‏

والنداء الثالث‏:‏ لافتتاح بيان تحديد تقلبات شؤون رسالته في معاملة الأمة‏.‏

والنداء الرابع‏:‏ في طالعَة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه‏.‏

والنداء الخامس‏:‏ في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات‏.‏

فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله، وهو نظير النداء الذي في قوله ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ الآيات‏.‏

ونداء النبي عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له بفضل هذا الوصف ليُربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ أو ‏{‏يا أيها الرسول‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله ‏{‏يوم لا يُخزِي الله النبي‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏وقال الرسول يا رب‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏قل الأنفال لله والرسول‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، ويجيء باسمه العلم كقوله ‏{‏ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقد يتعين إجراء اسمه العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى ‏{‏محمد رسولُ الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وقوله ‏{‏وما محمد إلا رسولٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144‏]‏‏.‏ وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله، أو تلقين لهم بأن يسمُّوه بذلك ويدْعوه به، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لي خمسة أسماءٍ‏:‏ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» تعليماً للأمة‏.‏ وقد أنهى أبو بكر ابن العربي أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سبعة وستين وأنهاها السيوطي إلى ثلاثمائة‏.‏ وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال‏:‏ أسماء النبي ألفَا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 45‏]‏‏.‏

والأمر للنبيء بتقوى الله توطئة للنهي عن اتّباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصرُ تقواه على التعلق بالله دون غيره، فإن معنى ‏{‏لا تطع‏}‏ مرادف معنى‏:‏ لاَ تَتَّققِ الكافرين والمنافقين، فإن الطاعة تقوى؛ فصار مجموع الجملتين مفيداً معنى‏:‏ يأيها النبي لا تتق إلا الله، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يُقال‏:‏ لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبي صلى الله عليه وسلم ربه أمر معلوم، فسلك مسلك الإطناب لهذا، كقول السموْأل‏:‏

تَسِيل على حدّ الظُبات نفوسنا *** وليستْ على غير الظُبات تسيل

فجاء بجملتي إثبات السيلان يِقَيْدٍ ونفيه في غير ذلك القيد للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف‏.‏

فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما‏.‏ وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله ‏{‏اتّققِ الله‏}‏ والنهي في قوله ‏{‏ولا تُطِععِ الكافرين والمنافقين‏}‏ مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله، فأشعر ذلك أن تشريعاً عظيماً سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين‏.‏

وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل أقوالهم ليَيْأسوا من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبي صلى الله عليه وسلم ويلحّون عليه بالطلبات نصحاً تظاهراً بالإسلام‏.‏

والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسبُ بما سيعقبه من قوله ‏{‏مَا جَعَلَ الله لِرَجُللٍ مِنْ قَلْبَيْن في جوفه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ إلى آخر أحكام التبنِّي، والموافق لما روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه؛ ويجوز أن يكونوا اليهودَ كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول، ولو حمل على ما يعمّ نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيداً‏.‏

والطاعة‏:‏ العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة‏.‏ وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها، مثل أن يعدل عن تزوج مُطَلَّقة متبناه لقول المنافقين‏:‏ إن محمداً ينهَى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه زيد بن حارثة، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتَخشى الناسَ والله أحق أن تَخشاه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطِع الكافرين والمنافقين ودَعْ أذاهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏ عقب قضية امرأة زيد‏.‏ ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجباً مصير المظاهرَة أُمًّا للمُظاهِر حراماً عليه قربانها أبداً، ولذلك أردفت الجملة بجملة ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ تعليلاً للنهي‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح‏.‏

ودخول ‏{‏إنّ‏}‏ على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغننٍ غناءها على ما بُيّن في غير موضع، وشاهده المشهور قول بشار‏:‏

بَكِّرَا صَاحِبَيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاحَ في التبكير

وقد ذكر الواحدي في «أسباب النزول» والثعلبي والقشيري والماوردي في «تفاسيرهم»‏:‏ أن قوله تعالى ‏{‏ولا تُطِععِ الكافرين والمنافقين‏}‏ نزل بسبب أنه بعد وقعة أُحُد جاء إلى المدينة أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبو الأعور السُّلَمي عَمرُو بن سفيان من قريش وأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمان في المدينة وأن ينزلوا عند عبد الله بن أبيّ ابن سلول ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أُبيّ ومعتِّب بن قُشير، والجدّ بن قيس، وطمعةَ بن أُبَيْرِق فسألوا رسول الله أن يترك ذكر آلهة قريش، فغضب المسلمون وهَمّ عُمر بقتل النفر القرشيين، فمنعه رسول الله لأنه كان أعطاهم الأمان، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة فنزلت هذه الآية، أي‏:‏ اتق الله في حفظ الأمان ولا تطع الكافرين وهم النفر القرشيون والمنافقين وهم عبد الله بن أبّي ومن معه‏.‏ وهذا الخبر لا سند له ولم يعرج عليه أهل النقد مثل الطبري وابن كثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏(‏واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا ‏[‏2‏]‏‏)‏ هذا تمهيد لما يرد من الوحي في شأن أحكام التبني وما يتصل بها ولذلك جيء بالفعل المضارع الصالح للاستقبال وجرد من علامة الاستقبال لأنه قريب من زمن الحال‏.‏ والمقصود من الأمر باتباعه أنه أمر باتباع خاص تأكيد للأمر العام باتباع الوحي‏.‏ وفيه إيذان بأن ما سيوحي إليه قريبا هو ما يشق عليه وعلى المسلمين من إبطال حكم التبني لأنهم ألفوه واستقر في عوائدهم وعاملوا المتبنين معاملة الأبناء الحق

ولذلك ذيلت جملة ‏(‏واتبع ما أوحي إليك‏)‏ بجملة ‏(‏إن الله كان بما تعملون خبيرا‏)‏ تعليلا للأمر بالاتباع وتأنيسا به لأن الله خبير بما في عوائدكم ونفوسكم فإذا أبطل شيئا من ذلك فإن إبطاله من تعلق العلم بلزوم تغييره فلا تتريثوا في امتثال أمره في ذلك فجملة ‏(‏إن الله كان بما تعملون خبيرا‏)‏ في موقع العلة فلذلك فصلت لأن حرف التوكيد مغن غناء فاء التفريع كما مر آنفا

وفي إفراد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله ‏(‏واتبع‏)‏ وجمعه بما يشمله وأمته في قوله ‏(‏بما تعملون‏)‏ إيماء إلى أن فيما سينزل من الوحي ما يشتمل على تكليف يشمل تغيير حالة كان النبي عليه الصلاة والسلام مشاركا لبعض الأمة في التلبس بها وهو حكم التبني إذ كان النبي متبنيا زيد بن حارثة من قبل بعثته

وقرأ الجمهور ‏(‏بما تعملون‏)‏ بتاء الخطاب على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم والأمة لأن هذا الأمر أعلق بالأمة‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده ‏(‏بما يعملون‏)‏ بالمثناة التحتية على الغيبة على أنه راجع للناس كلهم شامل للمسلمين والكافرين والمنافقين ليفيد مع تعليل الأمر بالاتباع تعريضا بالمشركين والمنافقين بمحاسبة الله إياهم على ما يبيتونه من الكيد وكناية عن إطلاع الله رسوله على ما يعلم منهم في هذا الشأن كما سيجيء ‏(‏لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم‏)‏ أي لنطلعنك على ما يكيدون به ونأذنك بافتضاح شأنهم

وهذا المعنى الحاصل من هذه القراءة لا يفوت في قراءة الجمهور بالخطاب لأن كل فريق من المخاطبين يأخذ حظه منه

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

زيادة تمهيد وتوطئة لتلقي تكليف يترقب منه أذى من المنافقين مثل قولهم‏:‏ إن محمداً نهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج امرأة ابنه زيد بن حارثة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودَعْ أذَاهُم وتوكَّلْ على الله وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏؛ فأمره بتقوى ربه دون غيره، وأتبعه بالأمر باتباع وحيه، وعززه بالأمر بما فيه تأييده وهو أن يفوّض أموره إلى الله‏.‏

والتوكل‏:‏ إسناد المرء مُهمه وشأنه إلى من يتولى عمله وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ على الله‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏159‏)‏‏.‏

والوكيل‏:‏ الذي يسند إليه غيره أمره، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا حسبنا الله ونِعم الوكيل‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏173‏)‏‏.‏

وقوله وَكيلاً‏}‏ تمييز نسبة، أي‏:‏ كفى الله وكيلاً، أي وكالته، وتقدم نظيره في قوله‏:‏ ‏{‏وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏81‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَينِ فِى جَوْفِه‏}‏

استئناف ابتدائي ابتداءَ المقدمة للغرض بعد التمهيد له بما قبله، والمقدمة أخص من التمهيد لأنها تشتمل على ما يوضح المقصد بخلاف التمهيد، فهذا مقدمة لِما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه مِما يوحَى إليه وهو تشريع الاعتبار بحقائق الأشياء ومعانيها، وأن مواهي الأمور لا تتغير بما يلصق بها من الأقوَال المنافية للحقائق، وأن تلك الملصقات بالحقائق هي التي تحجب العقول عن التفهم في الحقائق الحق، وهي التي تَرِينُ على القلوب بتلبيس الأشياء‏.‏

وذُكر ها هنا نوعان من الحقائق‏:‏

أحدهما‏:‏ من حقائق المعتقدات لأجل إقامة الشريعة على العقائد الصحيحة، ونبذ الحقائق المصنوعة المخالفة للواقع لأن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل، وهذا ما جعل تأصيله إبطال أن يكون الله جعل في خلق بعض الناس نظاماً لم يجعله في خلق غيرهم‏.‏

وثاني النوعين‏:‏ من حقائق الأعمال لتقوم الشريعة على اعتبار مواهي الأعمال بما هي ثابتة عليه في نفس الأمر إلا بالتوهم والادعاء‏.‏ وهذا يرجع إلى قاعدة أن حقائق الأشياء ثابتة وهو ما أُشير إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جَعَل أزواجكم اللاّء تَظَّهَّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق‏}‏، أي‏:‏ لا يقول الباطل مثل بعض أقوالكم من ذلك القبيل‏.‏ والمقصود‏:‏ التنبيه إلى بطلان أمور كان أهل الجاهلية قد زعموها وادّعوها‏.‏ وابتدئ من ذلك بما دليل بطلانه الحس والاختبار ليعلم من ذلك أن الذين اختلقوا مزاعم يشهد الحس بكذبها يهون عليهم اختلاق مزاعم فيها شُبه وتلبيس للباطل في صورة الحق فيتلقى ذلك بالإذعان والامتثال‏.‏

والإشارة بقوله ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ إلى أكذوبة من تكاذيب الجاهلية كانوا يزعمون أن جميل بن معمر ويقال‏:‏ ابن أسد بن حبيب الجُمحي الفهري وكان رجلاً داهية قوي الحفظ أن له قلبين يعملان ويتعاونان وكانوا يدْعونه ذَا القلبين يريدون العقلين لأنهم كانوا يحسبون أن الإدراك بالقلب وأن القلب محل العقل‏.‏ وقد غرّه ذلك أو تغارر به فكان لشدة كفره يقول‏:‏ «إن في جوفي قلبين أعمَل بكل واحد منهما عَملاً أفضل من عمل محمد»‏.‏ وسمّوا بذي القلبين أيضاً عبد الله بن خطل التيمي، وكان يسمى في الجاهلية عبد العزى وأسلم فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله ثم كفر وقتل صبراً يوم فتح مكة وهو الذي تعلق بأستار الكعبة فلم يعفُ عنه، فنفت الآية زعمهم نفياً عاماً، أي‏:‏ ما جعل الله لأي رجل من الناس قلبين لا لجميل بن معمر ولا لابن خطل، فوقوع ‏{‏رجل‏}‏ وهو نكرة في سياق النفي يقتضي العموم، ووقوع فعل ‏{‏جعل‏}‏ في سياق النفي يقتضي العموم لأن الفعل في سياق النفي مثل النكرة في سياق النفي‏.‏

ودخول ‏{‏مِن‏}‏ على ‏{‏قلبين‏}‏ للتنصيص على عموم قلبين في جوف رجل فدلت هذه العمومات الثلاثة على انتفاء كل فرد من أفراد الجعل لكل فرد مما يطلق عليه أنه قلبان، عن كل رجل من الناس، فدخل في العموم جميل بن معمر وغيره بحيث لا يدعى ذلك لأحد أيّاً كان‏.‏

ولفظ ‏{‏رجل‏}‏ لا مفهوم له لأنه أُريد به الإنسان بناء على ما تعارفوه في مخاطباتهم من نوط الأحكام والأوصاف الإنسانية بالرجال جرياً على الغالب في الكلام ما عدا الأوصاف الخاصة بالنساء يعلم أيضاً أنه لا يدعى لامرأة أن لها قلبين بحكم فحوى الخطاب أو لحن الخطاب‏.‏

والجعل المنفي هنا هو الجعل الجبلي، أي‏:‏ ما خَلَق الله رجلاً بقلبين في جوفه وقد جعل إبطال هذا الزعم تمهيداً لإبطال ما تواضعوا عليه من جعْل أحدٍ ابناً لمن ليس هو بابنه، ومِن جَعْل امرأة أمّاً لمن هي ليست أمه بطريقة قياس التمثيل، أي أن هؤلاء الذين يختلقون ما ليس في الخلقة لا يتورعُون عن اختلاق ما هو من ذلك القبيل من الأبوة والأمومة، وتفريعهم كل اختلاقهم جميع آثار الاختلاق، فإن البنوة والأمومة صفتان من أحوال الخلقة وليستا مما يتواضع الناس عليه بالتعاقد مثل الولاء والحلف‏.‏

فأما قوله تعالى ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ فهو على معنى التشبيه في أحكام البرور وحرمة التزويج؛ ألا ترى ما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ أن رسول الله لما خطب عائشة من أبي بكر قال له أبو بكر‏:‏ يا رسول الله إنما أنا أخوك، فقال رسول الله‏:‏ أنت أخي وهي لي حلال ‏"‏ أي أن الأخوة لا تتجاوز حالة المشابهة في النصيحة وحسن المعاشرة ولا تترتب عليها آثار الأخوة الجبلية لأن تلك آثار مرجعها إلى الخلقة فذلك معنى قوله «أنت أخي وهي لي حلال»‏.‏

والجوف‏:‏ باطن الإنسان صدره وبطنه وهو مقر الأعضاء الرئيسية عدا الدماغ‏.‏

وفائدة ذكر هذا الظرف زيادة تصوير المدلول عليه بالقلب وتجليه للسامع فإذا سمع ذلك كان أسرع إلى الاقتناع بإنكار احتواء الجوف على قلبين، وذلك مثل قوله‏:‏ ‏{‏ولكن تعمى القُلوبُ التي في الصُّدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ ونحوه من القيود المعلومة؛ وإنما يكون التصريح بها تذكيراً بما هو معلوم وتجديداً لتصوره، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ وقد تقدم في سورة الأنعام ‏(‏38‏)‏‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمَّهاتِكُم‏}‏

عطف إبطال ثان لبعض مزاعمهم وهو ما كان في الجاهلية أن الرجل إذا أراد فراق زوجه فراقاً لا رجعة فيه بحال يقول لها‏:‏ «أنتِ عليّ كظهر أمي» هذه صيغته المعروفة عندهم، فهي موجبة طلاق المرأة وحرمة تزوجها من بعد لأنها صارت أُمّاً له، وليس المقصود هنا تشريع إبطال آثار التحريم به لأن ذلك أُبطل في سورة المجادلة وهي مما نزل قبل نزول سورة الأحزاب كما سيأتي؛ ولكن المقصود أن يكون تمهيداً لتشريع إبطال التبني تنظيراً بين هذه الأوهام إلاّ أن هذا التمهيد الثاني أقرب إلى المقصود لأنه من الأحكام التشريعية‏.‏

و ‏{‏اللاَّء‏:‏ اسم موصول لجماعة النساء فهو اسم جمع ‏(‏التي‏)‏، لأنه على غير قياس صِيغ الجمع، وفيه لغات‏:‏ اللاّءِ مكسور الهمزة أبداً بوزن الباببِ، واللاّئي بوزن الداعي، والاَّءِ بوزن باب داخلة عليه لام التعريف بدون ياء‏.‏

وقرأ قالون عن نافع وقنبل عن ابن كثير وأبو جعفر اللاءِ‏}‏ بهمزة مكسورة غير مشبعة وهو لغة‏.‏ وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏واللائِي‏}‏ بياء بعد الهمزة بوزن الدّاعي، وقرأه أبو عمرو والبزّي عن ابن كثير ويعقوب و‏{‏اللاّيْ‏}‏ بياء ساكنة بعد الألف بدلاً عن الهمزة وهو بدل سماعي، قيل‏:‏ وهي لغة قريش‏.‏ وقرأ ورش بتسهيل الهمزة بين الهمزة والياء مع المد والقصر‏.‏ وروي ذلك عن أبي عمرو والبَزّي أيضاً‏.‏

وذِكر الظهر في قولهم‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، تخييل للتشبيه المضمر في النفس على طريقة الاستعارة المكنية إذ شبه زوجه حين يغشاها بالدابة حين يركبها راكبها، وذكر الظهر تخييلاً كما ذُكر أظفار المنية في بيت أبي ذؤيب الهذلي المعروف، وسيأتي بيانه في أول تفسير سورة المجادلة‏.‏

وقولهم‏:‏ أنت عليَّ، فيه مضافٌ محذوف دل عليه ما في المخاطبة من معنى الزوجية والتقدير‏:‏ غَشَيَانُك، وكلمة «عليّ» تؤذن بمعنى التحريم، أي‏:‏ أنت حرام عليّ، فصارت الجملة بما لحقها من الحذف علامة على معنى التحريم الأبدي‏.‏ ويعدى إلى اسم المرأة المراد تحريمها بحرف ‏(‏مِن‏)‏ الابتدائية لتضمينه معنى الانفصال منها‏.‏

فلما قال الله تعالى ‏{‏اللائي تُظّهّرون منهن‏}‏ علم الناس أنه يعني قولهم‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي‏.‏

والمراد بالجعل المنفي في قوله ‏{‏وما جعل أزواجكم اللائي تُظاهرون منهن أمهاتكم‏}‏ الجعل الخَلْقي أيضاً كالذي في قوله‏:‏ ‏{‏ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، أي‏:‏ ما خلقهن أمهاتكم إذ لسن كذلك في الواقع، وذلك كناية عن انتفاء الأثر الشرعي الذي هو من آثار الجعل الخَلْقي لأن الإسلام هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن أمهاتُهم إلا اللاّءِ ولدْنهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 2‏]‏ وقد بسط الله ذلك في سورة المجادلة وبه نعلم أن سورة المجادلة هي التي ورد فيها إبطال الظهار وأحكام كفارته فنعلم أن آية سورة الأحزاب وردت بعد تقرير إبطال الظهار فيكون ذكره فيها تمهيداً لإبطال التبنّي بشبه أنّ كليهما ترتيب آثار ترتيباً مصنوعاً باليد غير مبني على جعل إلهي‏.‏ وهذا يوقننا بأن سورة الأحزاب نزلت بعد سورة المجادلة خلافاً لما درَج عليه ابن الضريس وابن الحصار وما أسنده محمد بن الحارث بن أبيض عن جابر بن زيد مما هو مذكور في نوع المكي والمدني في نوع أول ما أنزل من كتاب «الإتقان»‏.‏

وقال السيوطي‏:‏ في هذا الترتيب نظر‏.‏ وسنذكر ذلك في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله‏.‏

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏تَظَّهَّرون‏}‏ بفتح التاء وتشديد الظاء مفتوحة دون ألف وتشديد الهاء مفتوحة‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏تُظَاهِرون‏}‏ بضم التاء وفتح الظاء مخففة وألف وهاء مكسورة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف‏:‏ ‏{‏تَظَاهرون‏}‏ بفتح التاء وفتح الظاء مخففة بعدها ألف وفتح الهاء‏.‏

‏{‏وَمَا جَعَلَ أدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُم‏}‏

هذا هو المقصود الذي وُطِّئ بالآيتين قبله، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه‏.‏ وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها‏.‏

والقول في المراد من قوله‏:‏ ‏{‏ما جَعَل‏}‏ كالقول في نظيره من قوله ‏{‏وما جَعَل أزواجكم اللاّءِ تظهرون منهن أمهاتكم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنكم تنسبون الأدعياء أبناءً فتقولون للدعيّ‏:‏ هو ابن فلان، للذي تبناه، وتجعلون له جميع ما للأبناء‏.‏

والأدعياء‏:‏ جمع دَعِيّ بوزن فَعيل بمعنى مفعول مشتقاً من مادة الادّعاء، والادّعاء‏:‏ زعم الزاعم الشيء حقاً له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب، وغلب وصف الدعيّ على المدّعي أنه ابن لمن يُتحقق أنه ليس أباً له؛ فمن ادعى أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلْحق، فالدعي لم يجعله الله ابناً لمن ادّعاه للعِلم بأنه ليس أباً له، وأما المستلحَق فقد جعله الله ابناً لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له‏.‏ وجُمع على أفْعِلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فَعْلَى، والأصح أن أفْعِلاَء يطّرد في جمْع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول‏.‏

نزلت هذه الآية في إبطال التبني، أي‏:‏ إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقية من الإرث، وتحريم القرابة، وتحريم الصهر، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنَّى أحكام البنوة كلها، وكان من أشهر المتبنَيْنَ في عهد الجاهلية زيدُ بن حارثة تبناه النبي صلى الله عليه وسلم وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عُمر بن الخطاب، وسالم تبناه أبو حذيفة، والمقدادُ بن عمرو تبناه الأسودُ بن عبد يغوث، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابناً للذي تبنّاه‏.‏

وزيد بن حارثة الذي نزلت الآيةُ في شأنه كان غريباً من بني كَلْب من وبَرة، من أهل الشام، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيداً فبقيا في حجر جدهما، ثم جاء عماهما فطلبا من الجدّ كفالتهما فأعطاهما جبلة وبَقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيداً فأخذ جدّه يبحث عن مصيره، وقال أبياتاً منها‏:‏

بكيت على زيد ولم أدر ما فعلْ *** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل

وأنه علم أن زيداً بمكة وأن الذين سَبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خُويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمناً ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ أشهد النبي قريشاً أن زيداً ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يُدعَى‏:‏ زيد بن محمد، وذلك قبل البعثة‏.‏

وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيل‏}‏

استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعاً، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها‏.‏

والإشارة إلى مذكور ضمناً من الكلام المتقدم، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل، ومن كون الزوجة المظاهَر منها أُمّاً لمن ظاهر منها، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم‏.‏ وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النِسَب الكلامية الصادقة النِسبَ الخارجية، وإلاّ فلاَ جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه‏.‏

ولإفادة هذا المعنى قيّد بقوله ‏{‏بأفواهكم‏}‏ فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر ‏{‏بأفواهكم‏}‏ مع العلم به مشيراً إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجودُ في اللسان والوجودُ في الأذهان دون الوجود في العيان، ونظير هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ أي‏:‏ لا تتجاوز ذلك الحد، أي‏:‏ لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر‏:‏ ‏{‏رب ارجعون لَعَلِّيَ أعملُ صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99 100‏]‏، فعلم من تقييده ‏{‏بأفواهكم‏}‏ أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحاً بقوله ‏{‏والله يقول الحق‏}‏ فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب‏.‏ ولهذا عطفت عليه جملة ‏{‏والله يقول الحق‏}‏ لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله ‏{‏ما جعل الله‏}‏ الخ‏.‏ فمعنى كونها أقوالاً‏:‏ أن ناساً يقولون‏:‏ جميل له قلبان، وناساً يقولون لأزواجهم‏:‏ أنت كظهر أمي، وناساً يقولون للدعي‏:‏ فلان ابن فلان، يريدون مَن تبناه‏.‏

وانتصب ‏{‏الحقَ‏}‏ على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به ل ‏{‏يقول‏.‏‏}‏ تقديره‏:‏ الكلام الحق، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو ‏{‏إنها كلمةٌ هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏، فالهاء المضاف إليها ‏(‏قائل‏)‏ عائدة إلى ‏{‏كلمة‏}‏ وهي مفعول أضيف إليها‏.‏ وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندَيْن الفعليَيْن إفادة قصر القلب، أي‏:‏ هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام‏.‏

ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصرُ معموليهما بالقرينة، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلاً ومجهلة‏.‏ فالمعنى‏:‏ وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل‏.‏

و ‏{‏السبيل‏:‏ الطريق السابلة الواضحة، أي‏:‏ الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها‏.‏ وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظاً ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيداً للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني، فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية، وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد‏.‏

وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبنّي وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه‏.‏ وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابناً له‏.‏ والمراد بالدعاء النسب‏.‏ والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم‏.‏

واللام في ‏{‏لآبائهم‏}‏ لام الانتساب، وأصلها لام الاستحقاق‏.‏ يقال‏:‏ فلان لفلان، أي‏:‏ هو ابنه، أي‏:‏ ينتسب له، ومنه قولهم‏:‏ فلان لِرَشْدَةٍ وفلان لِغَيَّةٍ، أي‏:‏ نسبَه لها، أي‏:‏ من نكاح أو من زنا، وقال النابغة‏:‏

لئن كان للقبرين قبر بجلق *** وقبر بصيداء الذي عند حارب

أي‏:‏ من أبناء صاحبي القبرين‏.‏ وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث‏:‏

فلست لأنْسِي ولكن لِمَلاك *** تنزل من جو السماء يصوب

وفي حديث أبي قتادة‏:‏ «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملاً أمَامة ابنة بنته زينبَ ولأبِي العاص بن ربيعة» فكانت اللامُ مغنية عن أن يقول وابنة أبي العاص‏.‏

وضمير ‏{‏هو أقسط عند الله‏}‏ عائد إلى المصدر المفهوم من فعل ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ أي‏:‏ الدعاء للآباء‏.‏ وجملة ‏{‏هو أقسط‏}‏ استئناف بياني كأنَّ سائلاً قال‏:‏ لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم‏؟‏ فأجيب ببيان أن ذلك القسط فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي‏:‏ هو قسط كامل وغيره جورٌ على الآباء الحق والأدعياء، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق‏.‏ والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ لتُعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبنّي، ولتطمئن نفوس المسلمين من المتبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفاً ألفوه‏.‏

ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم،‏}‏ فجَمَع فيه تأكيداً للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء، وتأنيساً للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالاً حقاً لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالماً متبنى أبي حذيفة‏:‏ سالماً مولى أبي حذيفة، وغيرَه، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو‏:‏ المقداد بن الأسود، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبنّاه في الجاهلية كما تقدم‏.‏

قال القرطبي‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال المقدادُ‏:‏ أنا المقداد بن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِقَ ذلك عليه ولو كان متعمداً اه‏.‏ وفي قول القرطبي‏:‏ ولو كان متعمداً، نظر، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يُطلق ذلك عليه‏.‏ ولعله جرى على ألسنة الناس المقدادُ بن الأسود فكان داخلاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به‏}‏ لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة‏.‏

وارتفاع ‏{‏إخوانُكم‏}‏ على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء، أي‏:‏ فهم لا يَعْدُون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا مواليَ أو يوصفوا بالموالي إن كانوا مواليَ بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام‏.‏ والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين‏.‏

والواو للتقسيم وهي بمعنى ‏(‏أو‏)‏ فتصلح لمعنى التخيير، أي‏:‏ فإن لم تعلموا آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك‏.‏ وهذا توسعة على الناس‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية، أي‏:‏ إخوانكم أخوة حَاصِلة بسبب الدّين كما يجمع الظرف محتوياته، أو تجعل ‏{‏في‏}‏ للتعليل والتسبب، أي‏:‏ إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أوذي في الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 10‏]‏، أي‏:‏ لأجل الله لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المؤمنون إخوة‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبُنوّة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلاً بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحَالف فالحقُّ أن يُدْعَوا بذلك الوصف، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء من تَبنَّوْهم‏.‏

والمراد بالولاء في قوله ‏{‏ومواليكم‏}‏ ولاء المحَالفة لا ولاء العتق، فالمحالفة مثل الأخوة‏.‏ وهذه الآية ناسخة لما كان جارياً بين المسلمين ومن النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المُتَبَنَّيْن إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن‏.‏ وذلك مراد من قال‏:‏ إن هذه الآية نسخت حكم التبنّي‏.‏

قال في «الكشاف»‏:‏ «وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغْبَى عن عالم بطرق النظم»‏.‏ وبيّنه الطيبي فقال‏:‏ يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا‏.‏ وبيانُه‏:‏ أن الأوامر والنهي في ‏{‏اتق‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏ولاَ تطع‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏واتّبع‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏وتَوكل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3‏]‏، فإن الاستهلال بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي اتق الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معْنِيَ شأنه لائح منه الإلهاب، ومن ثم عَطف عليه ‏{‏ولا تطع‏}‏ كما يعطف الخاص على العام، وأردَف به النهي، ثم أمَر بالتوكل تشجيعاً على مخالفة أعداء الدين، ثم عَقَّب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم، وعلل ‏{‏ولا تطع الكافرين‏}‏ بقوله ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ تتميماً للارتداع، وعلل قوله ‏{‏واتبع ما يوحى إليك‏}‏ بقوله ‏{‏إن الله كان بما تعملون خبيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2‏]‏ تتميماً، وذَيل قوله ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ بقوله ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 3‏]‏ تقريراً وتوكيداً على منوال‏:‏ فلان ينطق بالحَق والحقُ أبلج، وفصل قوله ‏{‏ما جعَل الله لرجل من قلبين في جوفه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ على سبيل الاستئناف تنبيهاً على بعض من أباطيلهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم قولكم بأفواهكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله‏.‏ ووَصل قوله ‏{‏والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل‏}‏

‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المجمل في ‏{‏ولا تطع‏}‏ و‏{‏اتبع،‏}‏ وفَصل قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله‏}‏ وقوله ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، وهلم جرّاً إلى آخر السورة تفصيلاً لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم اه‏.‏

‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَحِيماً‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل‏:‏ ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ‏.‏

والجناح‏:‏ الإثم، وهو صريح في أن الأمر في قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ أمر وجوب‏.‏

ومعنى ‏{‏فيما أخطأتم به‏}‏ ما يجري على الألسنة خارجاً مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا‏:‏ فلان ابن فلان للدّعي ومتبنيه، ولذلك قابله بقوله ‏{‏ولكن ما تعمّدت قلوبكم‏}‏ أي‏:‏ ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه‏.‏ وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لِدَعِيِّه‏:‏ هو ابني، ولا يقول‏:‏ تبنيت فلاناً، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قولُ الرجل‏:‏ أنزلت فلاناً منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني‏.‏ وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت‏.‏ وأما إذا قال لمن ليس بابنه‏:‏ هو ابني، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوبُ مجهول النسب ولم يكن الناسب مريداً التلطف والتقريب‏.‏ وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال‏:‏ هو ابني، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سناً ثبت نسبه منه، وإن كان عبده عَتق أيضاً، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه فقالا‏:‏ لا يعتق عليه‏.‏ وأما معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبداً يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده‏:‏ هو أخي، لم يعتق عليه إذا قال‏:‏ لم أرِدْ به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية، وإذا قال أحد لدعيّه‏:‏ يا بني، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة‏.‏

وقوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمرُ دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحَسن رضي الله عنه‏:‏ «إنّ ابني هذا سيّد» وقال‏:‏ «لا تُزْرِموا ابني» أي‏:‏ لا تقطعوا عليه بوله‏.‏ وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعيٍ له‏:‏ يا ابني، تلطّفاً وتقرباً، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعياً للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت، قال الشاعر‏:‏

أنتِ أختي وأنت حرمة جاري *** وحرام عليّ خون الجوار

ويَدعون من هو أكبر باسم العم كثيراً، قال النمر بن تولب‏:‏

دعاني الغواني عَمَّهن وخلتُني *** لي اسم فلا أدعى به وهو أول

يريد‏:‏ أنهن كنّ يدعونه‏:‏ يا أخي‏.‏

ووقوع ‏{‏جناح‏}‏ في سياق النفي ب ‏{‏ليس‏}‏ يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضاً معْضود بتصرفات كثيرة في الشريعة، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسِينا أو أخطأنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أُكرِهُوا عليه»‏.‏ ويفهم من قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ النهيُ عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يَقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً»‏.‏ ويخرج من النهي قول الرجل لآخر‏:‏ أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس، كقول أبي الطيب يُرقق سيف الدولة‏:‏

إنما أنتَ والد والأبُ القا *** طع أحنَى من واصل الأولاد

وجملة ‏{‏كان اللَّه غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏ تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏

استئناف بياني أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعل أدعياءكم أبناءكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ وقوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوّة زيد بن حارثة للنبيء صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالاً في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم صلى الله عليه وسلم وهل هي علاقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبي وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ تفضيلية‏.‏

ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس، أي‏:‏ أن النبي أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن، أي‏:‏ هو أشد ولاية، أي‏:‏ قرباً لكل مؤمن من قرب نفسه إليه، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة‏.‏ ف ‏{‏أولى‏}‏ اسم تفضيل من الوَلْي وهو القرب، أي‏:‏ أشد قرباً‏.‏ وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلِّقه ببناء المصاحبة والملابسة‏.‏ والكلام على تقدير مضاف، أي‏:‏ أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شؤون المؤمنين الصالحة‏.‏

والأنفس‏:‏ الذوات، أي‏:‏ هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم‏.‏ ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم «لأنتَ أحبّ إليّ من كل شيء إلاّ من نفسي التي بين جنبَيّ» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه‏.‏ فقال عمر‏:‏ والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبّ إليّ من نفسي»‏.‏ ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله‏:‏ ‏{‏إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض، أي‏:‏ من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏، أي‏:‏ يقتل بعضكم بعضاً، وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏‏.‏

والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب‏.‏ وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدْوَن، ولذلك استثنى عمر بن الخطاب بادئ الأمر نفسه فقال‏:‏ لأنت أحب إليّ إلا مِن نفسي التي بين جنبيّ‏.‏ وعلى كلا الوجهين فالنبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه‏.‏

وسننبه عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ فكانت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ ‏"‏ ولِما علمتَ من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدّى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته، وقد بينه قول النبي‏:‏ أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه ورثته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه‏.‏ وهذا ملاك معنى هذه الآية‏.‏

‏{‏مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏

عَطَف على حقوق النبي صلى الله عليه وسلم حقوقَ أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبي عليه الصلاة والسلام فجعَل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله ‏{‏وما جعَل أزواجَكُم اللاء تظّهرون منهنّ أمهاتكم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبي صلى الله عليه وسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبي والخلفاء الراشدون يتوخّون حُسن معاملة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويؤثرونهنّ بالخير والكرامة والتعظيم‏.‏ وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمونة‏:‏ «هذه زوج نبيئكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا» رواه مسلم‏.‏ وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم‏.‏ ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن، فلا يُحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن‏.‏

وأما إطلاق وصف خال المؤمنين على الخليفة معاوية لأنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين فذلك من قبيل التعظيم كما يقال‏:‏ بنُو فلان أخوال فلان، إذا كانوا قبيلة أمه‏.‏

والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي‏:‏ أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين‏؟‏ فقالوا‏:‏ ننظر، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين‏.‏

ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبرمن أمهات المؤمنين‏.‏

وذكر ابن العربي أن امرأة كان عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت في خلافة عمر فهَمَّ عمر برجمها‏.‏ فقالت‏:‏ لِمَ وما ضرَب عليّ النبي حجاباً ولا دُعيت أمَّ المؤمنين‏؟‏ فكفَّ عنها‏.‏ وهذه المرأة هي ابنة الجَون الكندية تزوجها الأشعث بن قيس‏.‏ وهذا هو الأصح وهو مقتضى مذهب مالك وصححه إمام الحرمين والرافعي من الشافعية‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ يحرم تزوج كل امرأة عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يبن بها‏.‏ وهو قول الشافعي وصححه في «الروضة»، واللآء طلّقهنُ الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البناء بهن فاختلف فيهن على قولين، قيل‏:‏ تثبت حرمة التزوج بهن حفظاً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ لا يثبت لهن ذلك، والأول أرجح‏.‏ وقد أُكد حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏، وبتحريم تزوج إحداهن على المؤمنين بقوله ‏(‏تعالى‏)‏‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكِحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وسيجيء بيان ذلك عند ذكر هاتين الآيتين في أواخر هذه السورة‏.‏

وروي أن ابن مسعود قرأ بعدها‏:‏ وهو أب لهم‏.‏ وروي مثله عن أُبَيّ بن كعب وعن ابن عباس‏.‏ وروي عن عكرمة‏:‏ كان في الحرف الأول «وهو أبوهم»‏.‏

ومحملها أنها تفسير وإيضاح وإلا فقد أفاد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏ أكثر من مفاد هذه القراء‏.‏

‏{‏وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الكِتَابِ مَسْطُوراً‏}‏

أعقب نسخ أحكام التبنّي التي منها ميراث المتبنِّي مَن تبناه والعكس بإبطال نظيره وهو المَواخاة التي كانت بين رجال من المهاجرين مع رجال من الأنصار وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل بالمدينة مع من هاجر معه، جعل لكل رجل من المهاجرين رجلاً أخاً له من الأنصار فآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد، وبين الزبير وكعب بن مالك، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع، وبين سلمان وأبي الدرداء، وبين عثمان بن مظعون وأبي قتادة الأنصاري؛ فتوارث المتآخون منهم بتلك المؤاخاة زماناً كما يرث الإخوة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، كما نسخ التوارث بالتبنّي بآية ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، فبينت هذه الآية أن القرابة هي سبب الإرث إلا الانتساب الجعلي‏.‏

فالمراد بأولي الأرحام‏:‏ الإخوة الحقيقيون‏.‏ وعبر عنهم بأولي الأرحام لأن الشقيق مقدم على الأخ للأب في الميراث وهم الغالب، فبينت الآية أن أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث من ولاية المتآخين المهاجرين والأنصار فعمَّ هذا جميع أولي الأرحام وخُصص بقوله ‏{‏من المؤمنين والمهاجرين‏}‏ على أحد وجهين في الآيتين في معنى ‏{‏مِن‏}‏ وهو بمنزلة العام الوارد على سبب خاص وهو مطلق في الأولوية والمطلق من قبيل المجمل، وإذ لم يكن معه بيان فمحمل إطلاقه محمل العموم، لأن الأولوية حال من أحوال أولي الأرحام وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، فالمعنى‏:‏ أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في جميع الولايات إلا ما خصصه أو قيَّده الدليل‏.‏

والآية مبيّنة في أن القرابة الحقيقية أرجح من الأخوة الجعلية، وهي مجملة في تفصيل ذلك فيما بين أولي الأرحام، وذلك مفصل في الكتاب والسنة في أحكام المواريث‏.‏ وتقدم الكلام على لفظ ‏{‏أولوا‏}‏ عند قوله تعالى ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏197‏)‏‏.‏

ومعنى في كتاب الله‏}‏ فيما كتبه، أي‏:‏ فرضه وحكم به‏.‏ ويجوز أن يراد به القرآن إشارة إلى ما تضمنته آية المواريث، وقد تقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الأنفال‏.‏ وتقدم الكلام في توريث ذوي الأرحام إن لم يكن للميت وارث معلوم سهمه‏.‏

و ‏{‏أولوا الأرحام‏}‏ مبتدأ، و‏{‏بعضهم‏}‏ مبتدأ ثان و‏{‏أوْلَى‏}‏ خبرُ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول، و‏{‏في كتاب الله‏}‏ متعلق ب ‏{‏أوْلى‏.‏

وقوله من المؤمنين والمهاجرين‏}‏ يجوز أن يتعلق باسم التفضيل وهو ‏{‏أولى‏}‏ فتكون ‏{‏مِن‏}‏ تفضيلية‏.‏ والمعنى‏:‏ أولوا الأرحام أولى بإرث ذوي أرحامهم من إرث أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية، أي‏:‏ الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين‏.‏ وأريد بالمؤمنين خصوصُ الأنصار بقرينة مقابلته بعطف ‏{‏والمهاجرين‏}‏ على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويهاً بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دَفعة واحدة لمّا أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ أي‏:‏ من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم‏.‏ فالمعنى‏:‏ كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجراً، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار، فيكون هذا ناسخاً للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال ‏(‏72‏)‏‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولاَيَتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر، ثم نسخ بآية هذه السورة‏.‏ ويجوز أن يكون قوله ‏{‏من المؤمنين‏}‏ ظرفاً مستقرّاً في موضع الصفة، أي‏:‏ وأولوا الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين، بعضهم أولى ببعض، أي‏:‏ لا يرث ذو الرحم ذا رحمه إلا إذا كانا مؤمنيْن ومهاجرين، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة، وأيّاً مَّا كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏من‏}‏ بيانية، أي‏:‏ وأولوا الأرحام المؤمنون والمهاجرون، أي‏:‏ فلا يرث أولوا الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَفَروا بعضُهم أولياء بعض‏}‏

‏[‏الأنفال‏:‏ 73‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72‏]‏‏.‏

والاستثناء بقوله ‏{‏إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً‏}‏ منقطع، و‏{‏إلا‏}‏ بمعنى ‏(‏لكنْ‏)‏ لأن ما بعد ‏{‏إلا ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف‏.‏ وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أُبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبَقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء‏.‏

وجملة كان ذلك في الكتاب مسطوراً‏}‏ تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شُرعت من قوله ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏ إلى هنا، فالإشارة بقوله ‏{‏ذلك‏}‏ إلى المذكور من الأحكام المشروعة فكان هذا التذييل أعمّ مما اقتضاه قوله ‏{‏بعضهم أوْلَى ببعض في كتاب الله‏.‏‏}‏ وبهذا الاعتبار لم يكن تكريراً له ولكنه يتضمنه ويتضمن غيره فيفيد تقريره وتوكيده تبعاً وهذا شأن التذييلات‏.‏

والتعريف في ‏{‏الكِتَاب‏}‏ للعهد، أي‏:‏ كتاب الله، أي‏:‏ ما كتبه على الناس وفرضه كقوله ‏{‏كتابُ الله عليكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏، فاستعير الكتاب للتشريع بجامع ثبوته وضبطه التغيير والتناسي، كما قال الحارث بن حلزة‏:‏

حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء

ومعنى هذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏75‏)‏‏.‏ فالكتاب‏:‏ استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة‏.‏

والمسطور‏:‏ المكتوب في سطور، وهو ترشيح أيضاً للاستعارة وفيه تخييل للمكنية‏.‏

وفعل كان‏}‏ في قوله ‏{‏كان ذلك‏}‏ لتقوية ثبوته في الكتاب مسطوراً، لأن ‏{‏كان‏}‏ إذا لم يقصد بها أن اسمها اتصف بخبرها في الزمن الماضي كانت للتأكيد غالباً مثل ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ أي‏:‏ لم يزل كذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

عطف على قوله ‏{‏يا أيها النبي اتق الله ولا تُطِع الكافرين والمنافقين إلى قوله‏:‏ وكفى بالله وكيلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1 3‏]‏ فلذلك تضمن الأمر بإقامة الدين على ما أراده الله تعالى وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى نبذ سنن الكافرين الصرحاء والمنافقين من أحكام الهوى والأوهام‏.‏

فلما ذكر ذلك وعقب بمثل ثلاثة من أحكام جاهليتهم الضالة بما طال من الكلام إلى هنا ثُني عنان الكلام إلى الإعلام بأن الذي أمره الله به هو من عهود أخذها الله على النبيئين والمرسلين من أول عهود الشرائع‏.‏ وتربط هذا الكلام بالكلام الذي عطف هو عليه مناسبة قوله‏:‏ ‏{‏كان ذلك في الكتاب مسطوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وبهذا الارتباط بين الكلامين لم يُحتج إلى بيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على النبيئين، فعُلم أن المعنى‏:‏ وإذا أخذنا من النبيئين ميثاقهم بتقوى الله وبنبذ طاعة الكافرين والمنافقين وباتباع ما أوحى الله به‏.‏ وقوله ‏{‏إن الله كان عليماً حكيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً‏}‏ فلما أمر النبي بالاقتصار على تقوى الله وبالإعراض عن دعوى الكافرين والمنافقين، أُعلم بأن ذلك شأن النبيئين من قبله، ولذلك عطف قوله ومنك‏}‏ عقب ذكر النبيئين تنبيهاً على أن شأن الرسل واحد وأن سنة الله فيهم متحدة، فهذه الآية لها معنى التذييل لآية ‏{‏يأيها النبي اتق الله ولا تُطع الكافرين والمنافقين‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏ الآيات الثلاث ولكنها جاءت معطوفة بالواو لبعد ما بينها وما بين الآيات الثلاث المتقدمة‏.‏

وقوله ‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم‏}‏ الآيتين لهما موقع المقدمة لقصة الأحزاب لأن مما أخذ الله عليه ميثاق النبيئين أن ينصروا الدين الذي يرسله الله به، وأن ينصروا دين الإسلام، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لَمَا ءاتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لَتُؤْمِنُنَّ به ولتنصرُنّه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏ فمحمد صلى الله عليه وسلم مأمور بالنصرة لدينه بمن معه من المسلمين لقوله في هذه الآية‏:‏ ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذاباً أليماً‏}‏ وقال في الآية الآتية في الثناء على المؤمنين الذين صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه ‏{‏ليجزي الله الصادقين بِصدْقِهم ويعذِّب المنافقين‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وقد جاء قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم‏}‏ جارياً على أسلوب ابتداء كثير من قصص القرآن في افتتاحها ب ‏{‏إذْ‏}‏ على إضمار ‏(‏اذكر‏)‏‏.‏ و‏{‏إذْ‏}‏ اسم للزمان مجرد عن معنى الظرفية‏.‏ فالتقدير‏:‏ واذكر وقتاً، وبإضافة ‏{‏إذ‏}‏ إلى الجملة بعده يكون المعنى‏:‏ اذكر وقتَ أخذِنا ميثاقاً على النبيئين‏.‏ وهذا الميثاق مجمل هنا بينته آيات كثيرة‏.‏ وجُماعها أن يقولوا الحق ويبلِّغوا ما أمروا به دون ملاينة للكافرين والمنافقين، ولا خشية منهم، ولا مجاراة للأهواء، ولا مشاطرة مع أهل الضلال في الإبقاء على بعض ضلالهم‏.‏

وأن الله واثقهم ووعدهم على ذلك بالنصر‏.‏ ولما احتوت عليه هذه السورة من الأغراض مزيد التأثر بهذا الميثاق بالنسبة للنبيء صلى الله عليه وسلم وشديد المشابهة بما أخذ من المواثيق على الرسل من قبله‏.‏ ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ وقوله في ميثاق أهل الكتاب ‏{‏ألَمْ يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏169‏)‏‏.‏

وفي تعقيب أمر الرسول بالتقوى ومخالفة الكافرين والمنافقين والتثبيت على اتّباع ما يوحى إليه، وأمره بالتوكل على الله، وجعلها قبل قوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ الخ‏.‏‏.‏ إشارة إلى أن ذلك التأييد الذي أيد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه إذ ردّ عنهم أحزاب الكفار والمنافقين بغيظهم لم ينالوا خيراً ما هو إلا أثر من آثار الميثاق الذي أخذه الله على رسوله حين بعثه‏.‏

والميثاق‏:‏ اسم العهد وتحقيق الوعد، وهو مشتق من وثق، إذا أيقن وتحقق، فهو منقول من اسم آلة مجازاً غلب على المصدر، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏27‏)‏‏.‏ وإضافة ميثاق إلى ضمير النبيئين من إضافة المصدر إلى فاعله على معنى اختصاص الميثاق بهم فيما أُلزموا به وما وعدهم الله على الوفاء به‏.‏ ويضاف أيضاً إلى ضمير الجلالة في قوله ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏ومنك ومن نوح‏}‏ الخ هو من ذكر بعض أفراد العام للاهتمام بهم فإن هؤلاء المذكورين أفضل الرسل، وقد ذُكر ضمير محمد صلى الله عليه وسلم قبلهم إيماء إلى تفضيله على جميعهم، ثم جعل ترتيب ذكر البقية على ترتيبهم في الوجود‏.‏ ولهذه النكتة خص ضمير النبي بإدخال حرف ‏(‏من‏)‏ عليه بخصوصه، ثم أدخل حرف ‏(‏مِن‏)‏ على مجموع الباقين فكان قد خصّ باهتمامين‏:‏ اهتمام التقديم، واهتمام إظهار اقتران الابتداء بضمير بخصوصه غير مندمج في بقيتهم عليهم السلام‏.‏

وسيجيء أن ما في سورة الشورى من تقديم ‏{‏ما وصَّى به نوحاً على والذي أوحينا إليك‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏ طريق آخر هو آثر بالغرض الذي في تلك السورة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَرَع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً‏}‏ أعادت مضمون جملة ‏{‏وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم‏}‏ لزيادة تأكيدها، وليبنى عليها وصف الميثاق بالغليظ، أي‏:‏ عظيماً جليل الشأن في جنسه فإن كل ميثاق له عظَمٌ فلما وصف هذا ب ‏{‏غليظاً‏}‏ أفاد أن له عظماً خاصاً، وليعلّق به لام التعليل من قوله ‏{‏لِيَسْأل الصادقين‏}‏‏.‏

وحقيقة الغليظ‏:‏ القويّ المتين الخلق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاستغلظ فاستوى على سوقه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ واستعير الغليظ للعظيم الرفيع في جنسه لأن الغليظ من كل صنف هو أمكنُه في صفات جنسه‏.‏

واللام في قوله ‏{‏ليسأل الصادقين عن صدقهم‏}‏ لام كي، أي‏:‏ أخذنا منهم ميثاقاً غليظاً لنعظّم جزاءً للذين يُوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ولنُشدِّد العذاب جزاءً للذين يكفرون بما جاءتهم به رسل الله، فيكون من دواعي ذكر هذا الميثاق هنا أنه توطئة لذكر جزاء الصادقين وعذاب الكافرين زيادة على ما ذكرنا من دواعي ذلك آنفاً‏.‏ وهذه علة من علل أخذ الميثاق من النبيئين وهي آخر العِلل حصولاً فأشعر ذكرُها بأن لهذا الميثاق عِللاً تحصل قبل أن يُسْأل الصادقون عن صدقهم، وهي ما في الأعمال المأخوذ ميثاقهم عليها من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك هو ما يُسأل العاملون عن عمله من خير وشرٍ‏.‏

وضمير ‏{‏يسأل‏}‏ عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلم إلى الغيبة‏.‏

والمراد بالصادقين أمم الأنبياء الذين بلغهم ما أُخذ على أنبيائهم من الميثاق، ويقابلهم الكافرون الذين كذبوا أنبياءهم أو الذين صدقوهم ثم نقضوا الميثاق من بعد، فيشملهم اسم الكافرين‏.‏

والسؤال‏:‏ كناية عن المؤاخذة لأنها من ثواب جواب السؤال أعني إسداء الثواب للصادقين وعذاب الكافرين، وهذا نظير قوله تعالى ‏{‏لا يُسْألُ عمّا يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏، أي‏:‏ لا يتعقب أحد فعله ولا يؤاخذه على ما لا يلائمه، وقول كعب بن زهير‏:‏

وقيل‏:‏ إنك منسوب ومسؤول ***

وجملة ‏{‏وأعد للكافرين‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ليسأل الصادقين‏}‏ وغُيّر فيها الأسلوب للدلالة على تحقيق عذاب الكافرين حتى لا يتوهم أنهم يسألون سؤال من يُسْمَع جوابُهم أو معذرتُهم، ولإفادة أن إعداد عذابهم أمر مضى وتقرر في علم الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

ابتداء لغرض عظيم من أغراض نزول هذه السورة والذي حفّ بآيات وعِبَر من ابتدائه ومن عواقبه تعليماً للمؤمنين وتذكيراً ليزيدهم يقيناً وتبصيراً‏.‏ فافتتح الكلام بتوجيه الخطاب إليهم لأنهم أهله وأحقّاءُ به، ولأن فيه تخليد كرامتهم ويقينهم وعناية الله بهم ولطفَه لهم وتحقيراً لعدوّهم ومن يكيد لهم، وأمروا أن يذكروا هذه النعمة ولا ينسوها لأن في ذكرها تجديداً للاعتزاز بدينهم والثقة بربهم والتصديق لنبيئهم صلى الله عليه وسلم

واختيرت للتذكير بهذا اليوم مناسبةُ الأمر بعدم طاعة الكافرين والمنافقين لأن من النِعم التي حفّت بالمؤمنين في يوم الأحزاب أن الله ردّ كيد الكافرين والمنافقين فذُكِّر المؤمنون بسابق كيد المنافقين في تلك الأزمة ليحذروا مكائدهم وأراجيفهم في قضية التبنّي وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم مطلَّقة متبناه، ولذلك خصّ المنافقون بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ الآيات؛ على أن قضية إبطال التبنّي وإباحة تزوّج مطلق الأدعياء كان بقرب وقعة الأحزاب‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ ظرف للزمن الماضي متعلق ب ‏{‏نعمة‏}‏ لما فيها من معنى الإنعام، أي‏:‏ اذكروا ما أنعم الله به عليكم زمان جاءتكم جنود فهزمهم الله بجنود لم تروها‏.‏

وهذه الآية وما بعدها تشير إلى ما جرى من عظيم صنع الله بالمؤمنين في غزوة الأحزاب فلنأت على خلاصة ما ذكره أهل السير والتفسير ليكون منه بيان لمطاوي هذه الآيات‏.‏

وكان سبب هذه الغزوة أن قريشاً بعد وقعة أُحد تهادنوا مع المسلمين لمدة عام على أن يلتقوا ببدر من العام القابل فلم يقع قتال ببدر لتخلف أبي سفيان عن الميعاد، فلم يناوش أحد الفريقين الفريق الآخر إلا ما كان من حادثة غدر المشركين بالمسلمين وهي حادثة بئر معونة حين غدرت قبائل عُصَيَّةَ، ورِعْل، وذَكوان من بني سُليم بأربعين من المسلمين إذ سأل عامر بن مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجههم إلى أهل نجدٍ يَدعونهم إلى الإسلام‏.‏ وكان ذلك كيداً كاده عامر بن مالك وذلك بعد أربعة أشهر من انقضاء غزوة أُحد‏.‏

فلما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النَضير لِما ظهر من غدرهم به وخيسهم بالعهد الذي لهم مع المسلمين، هنالك اغتاظ كبراء يهود قريظة بعد الجلاء وبعد أن نزلوا بديار بني قريظة وبخيبر فخرج سلاّم بن أبي الحُقَيق بتشديد لام سلاّم وضم حاء الحُقيق وفتح قافه وكنانة بنُ أبي الحُقيق، وحُيي بن أخطب بضم حاء حُيَي وفتح همزة وطاء أخطب وغيرهم في نفر من بني النضير فقدموا على قريش لذلك وتآمروا مع غطفان على أن يغزوا المدينة فخرجت قريش وأحابيشها وبنو كنانة في عشرة آلاف وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان في ألف قائدهم عيينة بن حصن، وخرجت معهم هوازن وقائدهم عامر بن الطُفَيل‏.‏

وبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عزمهم على منازلة المدينة أبلغتْه إياه خزاعة وخاف المسلمون كثرةَ عدوّهم، وأشار سلمان الفارسي أن يُحْفر خندق يحيط بالمدينة تحصيناً لها من دخول العدوّ فاحتفره المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم يحفر وينقل التراب، وكانت غزوة الخندق سنة أربع في رواية ابن وهب وابن القاسم عن مالك‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ سنة خمس‏.‏ وهو الذي اشتهر عند الناس وجرى عليه ابنُ رشد في «جامع البيان والتحصيل» اتباعاً لما اشتهر، وقول مالك أصحّ‏.‏

وعندما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسمّوْا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا، أي‏:‏ صاروا حِزباً واحداً، وانضمّ إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب، وورود غطفان وهوازنَ من أعلى الوادي من جهة المشرق، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رُومَة بين الجُرف وزُغَابة بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة وبعضهم يقول‏:‏ والغابة، والتحقيق هو الأول كما في «الروض الأنف»، ونزل جيش غطفان وهوازن بذَنَب نَقْمَى إلى جانب أُحُد، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف؛ وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سَلْع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندقُ بينهم وبين العدوّ، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة‏.‏ وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم، ودام الحال كذلك بضعاً وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلْع وقُتل أحدهم قتلَه علي بن أبي طالب وفرّ صاحباه، وأصاب سهمٌ غرْب سعد بن معاذ في أكْحله فكان منه موته في المدينة‏.‏ ولحقت المسلمين شدّة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوّهم حتى همّ النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتاباً في ذلك، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معَاذ‏:‏ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بَيْعاً، أفحين أكرَمَنا الله بالإسلام وأعزَّنا بك نعطيهم أموالنا والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان عزم عليه‏.‏

وأرسل الله على جيش المشركين ريحاً شديدة فأزالت خيامهم وأكْفأت قدورَهم وأطفأت نيرانهم، واختلّ أمرهم، وهلك كراعهم وخُفهم، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعاً إلى المدينة‏.‏

فقوله تعالى ‏{‏إذ جاءتكم جنودٌ‏}‏ ذُكر توطئة لقوله ‏{‏فأرسلنا عليهم ريحاً‏}‏ الخ لأن ذلك هو محلّ المِنّة‏.‏ والريح المذكورة هنا هي ريح الصَّبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والأطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم‏.‏ وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم «نُصرتُ بالصَّبا وأُهلكتْ عاد بالدبور»‏.‏ والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين الأحزاب وكانوا وسيلة إلقاء الرعب في نفوسهم‏.‏

وجملة ‏{‏وكان الله بما تعملون بصيراً‏}‏ في موقع الحال من اسم الجلالة في قوله ‏{‏نعمة الله‏}‏ وهي إيماء إلى أن الله نصرهم على أعدائهم لأنه عليم بما لقيه المسلمون من المشقة والمصابرة في حفر الخندق والخروج من ديارهم إلى معسكرهم خارج المدينة وبذلهم النفوس في نصر دين الله فجازاهم الله بالنصر المبين كما قال ‏{‏ولينصُرَنّ الله مَنْ ينصره‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بما تعملون بصيراً‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏ وقرأه أبو عمرو وحده بياء الغيبة ومحملها على الالتفات‏.‏

والجنود الأوُّل جمع جند، وهو الجمع المتّحد المتناصر ولذلك غلب على الجمع المجتمع لأجل القتال فشاع الجند بمعنى الجيش‏.‏ وذكر جنود هنا بلفظ الجمع مع أن مفرده مؤذن بالجماعة مثل قوله تعالى ‏{‏جندٌ مَّا هنالك مهزوم من الأحزاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 11‏]‏ فجمعه هنا لأنهم كانوا متجمعين من عدة قبائل لكل قبيلة جيش خرجوا متساندين لغزو المسلمين في المدينة، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما فصل طالوت بالجُنود‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏249‏)‏‏.‏

والجنود الثاني جمع جند بمعنى الجماعة من صنف واحد‏.‏ والمراد بهم ملائكة أُرسِلوا لِنَصْر المؤمنين وإلقاء الرعب والخوف في قلوب المشركين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏إذ جاءوكم‏}‏ بدل من ‏{‏إذ جاءتكم جنود‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ بدلَ مفصَّل من مجمل‏.‏ والمراد ب ‏(‏فوق‏)‏ و‏{‏أسفل‏}‏ فوق جهة المدينة وأسفلها‏.‏

و ‏{‏وإذا زاغت الأبصار‏}‏ عطف على البدل وهو من جملة التفصيل، والتعريف في ‏{‏الأبصار والقلوب والحناجر للعهد، أي‏:‏ أبصار المسلمين وقلوبهم وحناجرهم، أو تجعل اللام فيها عوضاً عن المضافات إليها، أي‏:‏ زاغت أبصاركم وبلغت قلوبكم حناجركم‏.‏

والزَيغ‏:‏ الميل عن الاستواء إلى الانحراف‏.‏ فزيغ البصر أن لا يرى ما يتوجه إليه، أو أن يريد التوجه إلى صوب فيقع إلى صوب آخر من شدة الرعب والانذعار‏.‏

والحناجر‏:‏ جمع حَنْجَرة بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم‏:‏ منتهى الحُلقوم وهي رأس الغلصمة‏.‏ وبلوغ القلوب الحناجر تمثيل لشدة اضطراب القلوب من الفزع والهلع حتى كأنها لاضطرابها تتجاوز مقارّها وترتفع طالبة الخروج من الصدور فإذا بلغت الحناجر لم تستطع تجاوزها من الضيق؛ فشبهت هيئة قلب الهلوع المرعُود بهيئة قلببٍ تجاوز موضعه وذهب متصاعداً طالباً الخروج، فالمشبه القلبُ نفسه باعتبار اختلاف الهيئتين‏.‏ وليس الكلام على الحقيقة، فإن القلوب لا تتجاوز مكانها، وقريبٌ منه قولهم‏:‏ تنفّس الصُعَداء، وبلغت الروح التراقيَ‏.‏

وجملة وتظنون بالله الظنونا‏}‏ يجوز أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏زاغت الأبصار‏}‏ ويجوز أن يكون الواو للحال وجيء بالفعل المضارع للدلالة على تجدد تلك الظنون بتجدد أسبابها كناية عن طول مدة هذا البلاء‏.‏

وفي صيغة المضارع معنى التعجيب من ظنونهم لإدماج العتاب بالامتنان فإن شدة الهلع الذي أزاغ الأبصار وجعل القلوب بمثل حالة أن تبلغ الحناجر، دل على أنهم أشفقوا من أن يهزموا لِمَا رأوا من قوة الأحزاب وضيق الحصار أو خافوا طول مدة الحرب وفناء الأنفس، أو أشفقوا من أن تكون من الهزيمة جراءة للمشركين على المسلمين، أو نحو ذلك من أنواع الظنون وتفاوت درجات أهلها‏.‏

والمؤمن وإن كان يثق بوعد ربه لكنه لا يأمن غضبه من جراء تقصيره، ويخشى أن يكون النصر مرجَّأ إلى زمن آخر، فإن ما في علم الله وحكمته لا يحاط به‏.‏

وحذف مفعولا ‏{‏تظنون‏}‏ بدون وجود دليل يدل على تقديرهما فهو حذف لتنزيل الفعل منزلة اللازم، ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف اقتصاراً، أي‏:‏ للاقتصار على نسبة فعل الظن لفاعله، والمقصود من هذا التنزيل أن تذهب نفس السامع كل مذهب ممكن، وهو حذف مستعمل كثيراً في الكلام الفصيح وعلى جوازه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعنده علم الغيب فهو يَرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وظننتم ظن السوء‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏، وقول المثل‏:‏ من يسمع يَخل، ومنعه سيبويه والأخفش‏.‏

وضُمِّن ‏{‏تظنّون‏}‏ معنى تُلحقون، فعدي بالباء فالباء للملابسة‏.‏ قال سيبويه‏:‏ قولهم‏:‏ ظننت به، معناه‏:‏ جعلته موضع ظنّي‏.‏ وليست الباء هنا بمنزلتها في ‏{‏كفى بالله حسيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، أي‏:‏ ليست زائدة، ومجرورها معمول للفعل قبلها كأنك قلت‏:‏ ظننت في الدار، ومثله‏:‏ شككت فيه، أي‏:‏ فالباء عنده بمعنى ‏(‏في‏)‏‏.‏

والوجه أنها للملابسة كقول دريد بن الصِّمَّة‏:‏

فقلت لهم‏:‏ ظُنوا بألفي مدجج *** سراتهم في الفارسي المسرد

وسيأتي تفصيل ذلك عند قوله تعالى ‏{‏فما ظنكم برب العالمين‏}‏ في سورة الصافات ‏(‏87‏)‏‏.‏

وانتصب ‏{‏الظنونا‏}‏ على المفعول المطلق المبين للعدد، وهو جمع ظن‏.‏ وتعريفه باللام تعريف الجنس، وجمعه للدلالة على أنواع من الظن كما في قول النابغة‏:‏

أبيتك عارياً خلقاً ثيابي *** على خوف تظن بي الظنون

وكتب ‏{‏الظنونا‏}‏ في الإمام بألف بعد النون، زيدت هذه الألف في النطق للرعاية على الفواصل في الوقوف، لأن الفواصل مثل الأسْجاع تعتبر موقوفاً عليها لأن المتكلم أرادها كذلك‏.‏ فهذه السورة بنيت على فاصلة الألف مثل القصائد المقصورة، كما زيدت الألف في قوله تعالى ‏{‏وأطعنا الرسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأضلونا السبيلا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وعن أبي علي في «الحجة»‏:‏ من أثبت الألف في الوصل لأنها في المصحف كذلك وهو رأس آية ورؤوس الآيات تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع، فأما في طرح الألف في الوصل فإنه ذهب إلى أن ذلك في القوافي وليس رؤوس الآي بقواففٍ‏.‏

فأما القراء فقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بإثبات الألف في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم والكسائي بحذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة ويعقوب بحذف الألف في الوصل والوقف، وقرأ خلف بإثبات الألف بعد النون في الوقف وحذفها في الوصل‏.‏ وهذا اختلاف من قبيل الاختلاف في وجوه الأداء لا في لفظ القرآن‏.‏ وهي كلها فصيحة مستعملة والأحسن الوقف عليها لأن الفواصل كالأسجاع والأسجاع كالقوافي‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هُنَالك‏}‏ إلى المكان الذي تضمنه قوله ‏{‏جاءتكم جنود‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏ وقوله ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم‏.‏‏}‏ والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه ‏{‏إذْ في قوله‏:‏ وإذ زاغت الأبصار‏.‏‏}‏ وكثيراً ما ينزّل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية‏:‏ ‏{‏هنالك‏:‏ ظرف زمان والعامل فيه ابتلي‏}‏ اه‏.‏ قلت‏:‏ ومنه دخول ‏(‏لات‏)‏ على ‏(‏هَنّا‏)‏ في قول حجل بن نضلة‏:‏

خنت نَوارُ ولات هَنَّا حِنت *** وبدا الذي كانت نوار أجنت

فإن ‏(‏لات‏)‏ خاصة بنفي أسماء الزمان فكان ‏(‏هَنَّا‏)‏ إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في ‏(‏هُنا‏)‏‏.‏ ويقولون‏:‏ يومُ هُنَا، أي يوم أول، فيشيرون إلى زمن قريب، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع‏.‏

والابتلاء‏:‏ أصله الاختبار، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم‏.‏

والزلزال‏:‏ اضطراب الأرض، وهو مضاعف زَلّ تضعيفاً يفيد المبالغة، وهو هنا استعارة لاختلال الحال اختلالاً شديداً بحيث تُخَيَّل مضطربة اضطراباً شديداً كاضطراب الأرض وهو أشدّ اضطراباً للحاقه أعظم جسم في هذا العالم‏.‏ ويقال‏:‏ زُلْزِلَ فلان، مبنياً للمجهول تبعاً لقولهم‏:‏ زُلزلت الأرض، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عُرفاً‏.‏ وهذا هو غالب استعماله قال تعالى‏:‏ ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسول الآية‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏

والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقُهم عَدداً وعُدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏وإذْ زاغتْ الأبصار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏ فإن ذلك كله مما ألحَق بالمسلمين ابتلاء فبعضه من حال الحرب وبعضه من أذى المنافقين، ليحذروا المنافقين فيما يحدث من بعد، ولئلا يخشوا كيدهم فإن الله يصرفه كما صرف أشدَّه يوم الأحزاب‏.‏

وقول المنافقين هذا يحتمل أن يكونوا قالوه عَلَناً بين المسلمين قصدوا به إدخال الشك في قلوب المؤمنين لعلهم يردونهم عن دينهم فأوهموا بقولهم ‏{‏ما وَعَدَنا الله ورسوله‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ أنهم ممن يؤمن بالله ورسوله، فنسبة الغرور إلى الله ورسوله إما على معنى التشبيه البليغ وإما لأنهم بجهلهم يجوزون على الله أن يغرّ عباده، ويحتمل أنهم قالوا ذلك بين أهل ملتهم فيكون نسبْة الوعد إلى الله ورسوله تهكماً كقول فرعون ‏{‏إنّ رسولكم الذي أُرْسِل إليكم لمجنون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏‏.‏

والغرور‏:‏ ظهور الشيء المكروه في صورة المحبوب، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يغرنّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏196‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏زُخْرف القول غروراً‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏112‏)‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الله وعدهم النصر فكان الأمر هزيمة وهم يعنون الوعد العام وإلاَّ فإن وقعة الخندق جاءت بغتة ولم يُرْوَ أنهم وُعدوا فيها بنصر‏.‏ والذين في قلوبهم مرض‏}‏ هم الذين كانوا مترددين بين الإيمان والكفر فأخلصوا يومئذ النفاق وصمّمُوا عليه‏.‏

والمراد بالطائفة الذين قالوا‏:‏ ‏{‏يا أهل يثرب لا مقامَ لكم فارجعوا‏}‏ عبدُ الله بن أبيِّ ابنُ سَلول وأصحابُه‏.‏ كذا قال السدي‏.‏ وقال الأكثر‏:‏ هو أوس بن قَيظي أحدُ بني حارثة، وهو والد عَرابة بن أوس الممدوح بقول الشمّاخ‏:‏

رأيت عرابةَ الأوْسيَّ يسمو *** إلى الخيرات منقطع القرين

في جماعة من منافقي قومه‏.‏ والظاهر هو ما قاله السُدّي لأن عبد الله بن أبَيّ رأس المنافقين، فهو الذي يدعو أهل يثرب كلّهم‏.‏

وقوله ‏{‏لا مقام لكم‏}‏ قرأه الجمهور بفتح الميم وهو اسم لمكان القيام، أي‏:‏ الوجود‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم بضم الميم، أي‏:‏ محلّ الإقامة‏.‏ والنفي هنا بمعنى نفي المنفعة فلما رأى هذا الفريق قلة جدوى وجودهم جعلها كالعدم، أي لا فائدة لكم في ذلك، وهو يروم تخذيل الناس كما فعل يوم أُحُد‏.‏

و ‏{‏يثرب‏}‏‏:‏ اسم مدينة الرسول، وقال أبو عبيدة يثرب‏:‏ اسم أرض والمدينة في ناحية منها، أي‏:‏ اسم أرض بما فيها من الحوائط والنخل والمدينة في تلك الأرض‏.‏ سميت باسم يثرب من العمالقة، وهو يثرب بن قانية الحفيد الخامس لإرَم بن سام بن نوح‏.‏ وقد روي عن البراء بن عازب وابن عباس أن النبي نهى عن تسميتها يثرب وسماها طَابة‏.‏

وفي قوله ‏{‏يا أهل يثرب لا مقام لكم‏}‏ محسِّنٌ بديعيّ، وهو الاتِزان لأن هذا القول يكون منه مصراع من بحر السريع من عَروضه الثانية المخبُولة المكشوفة إذ صارت مفعولات بمجموع الخبل والكشف إلى فَعَلن فوزنه مستفعلن مستفعلن فَعَلن‏.‏

والمراد بقوله ‏{‏فريق منهم‏}‏ جماعة من المنافقين والذين في قلوبهم مرض، وليسوا فريقاً من الطائفة المذكورة آنفاً، بل هؤلاء هم أوس بن قيظي وجمع من عشيرته بني حارثة وكان بنو حارثة أكثرهم مسلمين وفيهم منافقون، فجاء منافقوهم يعتذرون بأن منازلهم عورة، أي‏:‏ غير حصينة‏.‏

وجملة ‏{‏ويستأذن فريق‏}‏ عطف على جملة ‏{‏قالت طائفة‏}‏، وجيء فيها بالفعل المضارع للإشارة إلى أنهم يلِحُّون في الاستئذان ويكررونه ويجددونه‏.‏

والعورة‏:‏ الثغر بين الجبلين الذي يتمكن العدو أن يتسرب منه إلى الحي، قال لبيد‏:‏

وأجَنَّ عوراتتِ الثغورِ ظَلامُها ***

والاستئذان‏:‏ طلب الإذن وهؤلاء راموا الانخذال واستحيَوا‏.‏ ولم يذكر المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم‏.‏ وذكر أهل السير أن ثمانين منهم رجعوا دون إذنه‏.‏ وهذا يقتضي أنه لم يأذن لهم وإلا لما ظهر تميزهم عن غيرهم، وأيضاً فإن في الفعل المضارع من قوله ‏{‏يستأذن‏}‏ إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستَعلم ذلك، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سَلِمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏ هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أُحُد‏.‏ وفي الحديث‏:‏ أن بني سَلِمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» أي خُطاكم‏.‏ فهذا الفريق منهم يعتلُّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها‏.‏

والتأكيد بحرف ‏{‏إنَّ‏}‏ في قولهم ‏{‏إن بيوتنا عورة‏}‏ تمويه لإظهار قولهم ‏{‏بيوتنا عورة‏}‏ في صورة الصدق‏.‏ ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر‏.‏

وجملة ‏{‏وما هي بعورة إلى قوله مسؤول‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏ معترضة بين جملة ‏{‏يستأذن فريق منهم‏}‏ الخ وجملة ‏{‏لنينفعكم الفرار‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏وما هي بعورة‏}‏ تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها‏.‏ ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد‏.‏